السلوك الإجرامي عبارة عن ظاهرة اجتماعية، تعبر عن محصلة العوامل الفردية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية المحلية والعالمية. أي أنّ الجريمة هي نتاج تفاعل الأفراد مع بعضهم البعض من جهة، وتفاعلهم مع البيئة الاجتماعية من جهة أخرى، وكذلك التفاعل مع الدولة وسياساتها، ومع البيئة العالمية في ظل العولمة والتقنيات الإلكترونية ووسائل التواصل اللا-اجتماعية.
وانطلاقاً من هذا المفهوم نرى أنّ الجريمة عبارة عن تعبير للموازنة بين صراع القيِيَم الاجتماعية والضغوط المختلفة من قِبَل المجتمع. في الحالة الفلسطينيّة في الداخل فإنّ الصراع مضاعف، حيثُ يكون صراع القِيَم الاجتماعيّة داخل المجتمع الفلسطينيّ، وصراع مع قِيَم المجتمع المسيطر في الدولة. إذًا الإجرام يكون نتيجة لحالة الصراع بين الفرد والمجتمع والدولة.
في هذا التقرير سأحاول تفسير أسباب الجريمة في مجتمعنا الفلسطينيّ في الداخل من خلال عدة وجهات نظر، لكن سأترك المجال مفتوحا أمام القارئ ليستنبط استنتاجاته الشخصية.
قديمًا، تعاقدَ الناس فيما بينهم بأن يتنازلوا عن حرياتهم الفرديّة من أجل توحيدها، لتشّكل إرادة عامة تهدف لتنظيم حياة الأفراد في المجتمع ولِتكفل لهم الأمن والاستقرار، ويُقصد بالإرادة العامة “سلطة الدولة”. بهذا على الدولة أن تسّن قانونًا يكون به أفراد المجتمع سواسية وأحرارًا. (روسو العهد التنويري).
وضع الإنسان القوانين لضمان الأمن والأمان وتنظيم الحياة بين أفراد المجتمع، بحيث تشّكل الدولة المؤسسة القانونيّة والتشريعيّة والتنفيذيّة لهذه القوانين. إذًا الدولة تملك ما تنازل عنه أفراد المجتمع من حرياتهم الطبيعية لكيْ تدافع عنهم وعن حقوقهم ومصالحهم لتصبّ كلّها في المصلحة العامة.
كانت شرائع حمورابي أوّل قانون مّسجل في التاريخ يدعو إلى منع العنف والقتل ( لا تقتل، لا تسرق، لا تزنِ الخ). أيضًا خاطبت كلّ الأديان الروحَ الإنسانية، داعية إلى نبذ الشرّ والكراهيّة، كما وأسسّت النظم الأخلاقيّة الداعيّة إلى المحبة والتّسامح والتّقبل، لكن الإنسان ضربَ هذا عرضَ الحائط، وادّعى الإلتزام بالدين وأخلاقه.
يتّضح ممّا ذُكر أنّ منع الشيء يدلّل على وجوده، وتنظيم المجتمع يدلّ على الحاجة للحماية، أي أنّ الإنسان مُنذُ البدء يحمل معه العنف، ولكن هل كلّ انسان يحمله؟ وكيف استمرت البشريّة؟ ولماذا يزدادُ العنف استفحالًا في مُجتمعنا المُعاصر؟
إن ّ الفجوة بين القِيَم التربويّة المُكتسبة التي ينشأ عليها الطفل وبين القِيَم السائدة في المجتمع توّلدُ خللًا، وتُزعزع الثقة في البالغين والمربين المحيطين بالطفل. حيث تبرهن الطبيعة أنّ العدالة هي انتصار الأكبر قيمة على الأدنى قيمة، انتصار القادر على العاجز وهذا يظهر بين الحيوان والانسان، بين أفراد الأسرة، بين الدولة والمواطنين، وعلامة العدل هي سيطرة القوي على الضعيف. فكلّ مَن يرتكب جريمة بناء على هذا المنظور فإنّه يتصرف وفق َ قانون الطبيعة الذي يناقض ما اعتمد في تربية الأطفال، حيث تخضعهم التربيّة لِصِيَغ سحريّة غيبيّة وأقنعة مصطنعة حولَ العدل والحقّ والجمال وغيرها. لكن الطفل يكبر ويكتشف الحقيقة فيُحطّم أغلال القِيَم التي اكتسبها ويحتقر نصوص مجتمعه وكلّ قوانينه ويثور عليه ليسطع نور الحقّ الطبيعيّ.
كذلك يشرح غاليمار خطورة الإنسان على أخيه الإنسان، بأنّ لا شيء أكثر إرعابًا للإنسان سوى إنسان ذكيّ، لاحم، قاسٍ، يكون بمستطاعه فهم وإفساد العقل الإنسانيّ، ويهدف بالتحديد إلى تدمير الإنسان. فالإنسان يشارك الإنسان في غاياته ووسائله وغيرها فحين يكتشفُ هذه المبادلة الخادعة تظهر القطيعة، استحالة أن يظلّ جميع هؤلاء الناس فوق الأرض التي تحملهم وتطعمهم في وئامٍ وسلامٍ بلْ يصبح كلّ فرد بالنسبة للآخر خطيرًا وتترجم هذهِ الخطورة للعنف والجريمة والشرّ.
ويؤكد باغوت فيقول: “مهما يُقال ضد مبدأ الانتقاء الطبيعي، فلا ريْبَ في هيمنته في المجتمع البشريّ. فقد قتلَ الأقوياء دائما الضعفاء، كلما استطاعوا. وفي كلٍ دولة من العالم، يجنح ُ الذين هم الأقوى إلى الهيمنة على الاخرين، ويجنح ُ الأقوياء إلى أن يكونوا الأفضل”.
أمّا الدافع للعنف حسب باربارا:”… لا يوجد خط سببي مباشر الدافع الى السلوك، … بل إنّ الدافع هو شبكة تعطي الأولوية للإثارة العاطفية، والتقييمات العكسية، والمغزى الرمزيّ، والمعتقدات المعتمدة، والسلوك المتبنّى اجتماعيّا”.
من الميزات الأساسية لكلّ حضارة، الطريقة التي تدرك بها العدوانيّة وكيفية تنظيمها. حيث أنّ هذا الإدراك يرسخ في أذهان افراد المجتمع منذ الصغر. على التربية أن تعمل على التعرف على العدوانيّة وتوجيهها، السيطرة عليها، والتّعامل معها بطريقة ناجعة. كما وتحدّد التربية كيف ومتى يجب أن نكبح جماح العدوانيّة ومتى نسمح لها بالانفلات.
إنّ الاعتداء، ينتظر حدوث استفزاز، وتوّفر الظروف الملائمة التي فيها تغيب القوى التي تكبحه عادة، ليكشف الانسان عن التوحش في داخله، مع أنّه كان من الممكن بلوغ هدفه بطرق أخرى أكثر هدوءًا. إن ّ وجود هذا الميل نحو الإعتداء، والذي نستشعره في ذاتنا، ونفترض أنّ الآخر لديه نفس الشعور تجاهنا، هو ما قد يخلخل علاقتنا ويستهلك ثقافتنا. وتبعًا لهذه الكراهيّة الأوليّة الموجودة لدى الناس تجاه بعضهم البعض، فإنّ المجتمع والثقافة مُهددان باستمرار التفككّ. لذا، فإنّ دور الدولة الرئيسيّ يقوم على منع القيام بأعمال العنف من قِبَل الأفراد، أو أقل تقدير على تقييد هذا العنف.
بينما دوركايم يفسر الجريمة من خلال الظروف الاجتماعية، فحين يحصل تناقضٌ بيْن َ متُطلبات الفرد وواجباته يجعله هذا متوترًا ومُضطربًا ممّا يدفعه إلى الانزواء ومن ثمّ العزلة، ويؤدي إلى اضطراب الأفراد واختلال إدراكهم السليم فلا يمكنهم التمييز بين الممكن وغير الممكن، بين العدل والظلم، مسموح وممنوع وغيرها، ممّا ينتج عنها سلوكيات الرفض والاعتراض ومن ثمّ ظهور مجموعة من الظواهر مثل العنف والتي تزعزع بنية المجتمع. هذا يعني أنّ المجتمع إذا غابت منه القاعدة المنظّمة لسلوك أفراده دخل في حالة من الأنوميا.
أيضًا كينغ ميرتون يتحدث عن البنية الاجتماعيّة و الأنوميا . إن ّ القوى المتناقضة للمجتمع تفرض على الأفراد وضعيّة يواجهون من خلالها الضغوط، ممّا يجعلهم يعانون من التوتر، الناتج عن صعوبة بالغة في النجاح في تحقيق الرغبات واشباع الغرائز الطبيعيّة والضروريّة، حيث ُأنّ عدم تحقيقها يؤدي بالفرد إلى الخروج عن ثقافة مجتمعه. من هنا يمكننا القول، أنّ العنف ناتج عن عدم التناسق بين القِيَم الثقافيّة والطرق الاجتماعيّة لتحقيق تطلُعات ومقاصد هذه القِيَم.
يؤكد كابرييل تارد أنّ الإنسان لا يُولد مُجرمًا، وليس الإجرام بالفطرة، بل يصبح الإنسان مجرمًا من خلال بيئته الاجتماعية التي يعيش فيها، تنشئته، معتقداته الثقافيّة ومن خلال محاكاته للآخرين. في نظريته التقليد والمحاكاة، يوضح تارد أن التقليد هو العنصر النمطيّ المُميّز للحياة الاجتماعيّة لأنه يُمثل الومضة الأولى للشعور وهو رمز الاندفاع البيو عقلي الأولي. يُحاكي ويُقلد الأدنى الأعلى، الفقير الغني، الصغير الكبير، والمحكوم يقلد الحاكم… وإذا التقى نموذجان متعارضان يستبدل الواحد منهما الآخر. لكن تارد يوضح أنّ الأفراد يختلفون في استجاباتهم وتأثرهم بالعوامل المحيطة بهم، وهم يختلفون في قوة التّحمل وقوة الشخصية ومدى الالتزام بالقِيَم والعادات. لذلك يصبح البعض مجرمًا دون الآخر في نفس المجتمع.
كما أنّ ردة فعل المجتمع تجاه العمل الاجراميّ مهمة جدا وتؤثر على استمرار وتكرار الجريمة حيث ُتوّضح نظرية الوصم (ادوين لمرت) التي تفترض أن السلوك الإجراميّ للفرد ينبع نتيجة رد فعل المجتمع نحو هذا الفرد، ووصمه بالفعل السلبي ليكون علامة ً فارقةً له تغلبُ كلّ صفاته الأخرى وتؤدي إلى تكرار الجريمة. كمثل يقول: “النبوءة تُحققّ ذاتها”.
يعرّف (ركلس وبيلي وهيرشي) في نظريّة الضبط الاجتماعي، الإنحراف والجريمة على أنّها مظاهر لفشل الفرد في ضبط نفسه وفشل الجماعة على جعل معاييرها فعّالة. أيّ ضعف الرباط الاجتماعيّ بين الفرد والمجتمع وعدم قدرة الفرد على الامتثال والانضباط بالقِيَم والمعايير ممّا يُظهر عدم قوتها وفعاليتها.
وماذا عن المثل العربي القائل “قلْ لي مَنْ تصاحب أقُل لكَ مَن أنتَ”، وفي العامية: “رافق المسعد بتسعد”. يُقال في نظرية الاختلاط التفاضليّ (ادوين سذرلاند) “أنّ الفارق الأساسيّ بيْنَ سلوكيّات الأفراد يعتمد بالدرجة الأولى على نوعيّة الأشخاص الذين يختلطون بهم، وأنّ كلّ شخص ينطبع بالطابع الثقافي ّوالاجتماعيّ المحيط به”. إنّ السلوك الإجراميّ سُلوكٌ مُكتسب مثله مثل أيّ سلوك آخر، يتمّ تعلمه من خلال الاتصال والتواصل مع مجموعات اجتماعيّة، ومن خلال العلاقات الشخصيّة داخل جماعات متقاربة ومتآلفة تؤثر على توجيه تصرفات معيّنة في مواقف معيّنة.
لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه بقوة – هل الأصدقاء ومَنْ نُصاحب اليوم في ظلّ التطور التكنولوجيّ هم أشخاص فعليون حقيقيون يتمّ اختيارهم عن إدراك ومعرفة؟ أم هم أناس وأصدقاء افتراضيون وهميون؟ نكوّن معهم حياة افتراضية، تخلِقُ شرخًا قويًا ما بين الثقافة التي تربَيْنا عليها، وبين الممارسات الحياتيّة اليوميّة التي تفرض علينا من هذه العلاقة الوهميّة؟ فما مدى تأثير الأفلام والاعلام ووسائل التواصل اللا اجتماعية وغيرها على تكوين واختيار الأصدقاء؟ أعتقد أنّها أسئلة مهمة تحتاج الإجابة عليها، لكنّني لن أستطيع التطرق إليها في هذه المقالة سأتناولها في مقالة لاحقة.
يُفسر كوهن في نظرية الثقافة الفرعيّة الجانحة (البرت كوهن)، الانحراف بأنّه حصيلة تناقض بين نوعيْن مِن القِيَم والمعايير أحدهما المعايير والقِيَم الخاصة بالطبقة الوسطى، والأخرى المعايير التي تتّصل بالطبقات العاملة والمحرومة، حيث تُشّكل معايير الطبقة الوسطى الهيكل العام للثقافة التي تسود المجتمع الكبير. أمّا العاملة والمضطهدة فتُشّكل الهيكل الفرعيّ الآخر لثقافة دونيّة وفرعيّة وهامشيّة.
بناءً على هذه النظرية فإنّ الانحراف في الطبقة الدنيا يرجعُ إلى إحباطهم الشديد بسبب شعورهم بتدني منزلتهم الاجتماعية وانتمائهم لطبقة اجتماعية دنيا. وكون الثقافة المسيطرة في المجتمع هي ثقافة الطبقة الوسطى والتي تُمثل في الحالة الفلسطينيّة الاحتلال والاضطهاد، فإنّهم لا يستطيعون التكيّف السليم معها، وبالتالي ينتج الانحراف. فالتقدم في السلم الاجتماعيّ مرتبط بقِيَم ومعايير ومواصفات الطبقة الوسطى، وبمدى الالتزام بها وتطبيقها في الحياة اليوميّة لخدمة أهدافها.
وبما إنّ هذه المتطلبات لا تتوفرّ في أبناء الطبقة الدنيا بسبب التنشئة الاجتماعيّة الرافضة لِقِيَم الطبقة الوسطى ولِقِيَم المُحتل، ممّا يجعلهم يفشلون في تحقيق التّقدم. كلّ هذا يُحبط ويجعل المحاولات دون جدوى فيتوّقف السعيّ وراء الطموحات ويبدأون بالبحث عن بديل – فإمّا أنْ يبقون في أماكنهم، وإمّا أنْ ينشأ الانحراف وعصابات الأطفال، فينظمون أنفسهم في تنظيم اجتماعيّ مع أفراد متجانسين في خصائصهم الفردية وظروفهم المعيشية ومعاناتهم. ومن خلال هذه التنظيمات يحقق الفرد ما لم يستطع تحقيقه من قبل، فيمثل هنا الانحراف ثورة على معايير الطبقة الوسطى وعلى ثقافة المحتل.
تتمثلّ عناصر الثقافة الدونيّة حسب (ميلر) على ما يلي: افتعال المشاكل والشغب بما يشمل مواجهة المسؤولين ورجال الأمن والأنشطة الجنسية المصحوبة بالسُكر والإدمان. القوة، الشجاعة، الدهاء للتغلب على المنافس بالقدرات العقليّة. فيشعر المنحرف بالقدرة، وبأنّه مستقل ومستقبله في متناول يده. هؤلاء الشباب المنحرفون يمثلون الشباب الأكثر قدرة في الحيّ.
هل الإقصاء والنبذ وعدم الاعتراف والتعالي يدفع الانسان لأن يُثبت نفسه من خلال الجريمة وإراقة الدماء لينتزع الاعتراف به من المجتمع، ومن الدولة؟ وماذا عن مقولة هيجل بأنّ الجريمة “تسديد لدين”؟ لأنها عنف مُوَجه ضد عنف، وهي ردّ فعل مشروع للعنف الاجراميّ الصادر عن إجرام الدولة ضدّ الحريّة التي دفع ثمنها الأفراد من حريتهم الشخصيّة لصالح الحرية الموحدة الجمعيّة للمجتمع.
يقول د. مصطفى حجازي في تفسيره لسيكولوجية الانسان المقهور، أنّ علاقة القهر تقوم على أنا-ذاك، ذاك الشيء الذي لا أعترف به، ولا بإنسانيته وقيمتها, ولا بحياته وقدسيتها. باعتباره شيئا، يصبح كلّ ما يتعلق به أو ما يمتُ إليه بصلة مُباحًا (غبن، اعتداء، تسلط، استغلال، قتل، الخ….). أما البديل لها علاقة أنا-انت التي تتضمّن المساواة والاعتراف المتبادل بإنسانية الآخر وحقه في الوجود، وهو شرط لحصولنا على انسانيتنا من خلال اعتراف الآخر بنا كقيمة إنسانية. أعتقد أنّ بإمكاننا أيضًا رفع القيمة الإنسانيّة ككلّ واستبدال انا-انت ب-نحن.
يتابع حجازي، يدخل المستعمر في وعيّ المستعمرين أنّهم ليسوا بأناس، ويدخل العنف إلى عقول أبناء الفئة المستغلة ككائنات هزيلة، مستضعفة وجبانة، ولا بُدّ أن تبقى على هذه الحالة، لا بالإقناع والمنطق، بل بالقوة والقسر. وهذا يؤكد بدوره أسطورة المتسلّط والتي تؤكد تفوّقه وغباء وعدم آدمية المستضعف مثلا نظرة الامبرياليّة الصهيونيّة الاستعماريّة إلى العرب، حيث كتب هرتزل – الدولة اليهودية: لن يكون للعرب سوى وظيفة واحدة وهي القيام بالأعمال المنحطّة مثل تنظيف وجمع القمامة، تجفيف البرك، ملاحقة الثعابين وتطهير الأرض منها، الخ…
ويقسم حجازي المراحل التي يمرّ بها الانسان المقهور إلى ثلاثة مراحل:
- مرحلة القهر والرضوخ: وهي مرحلة طويلة نسبيًّا، فترة مظلمة من تاريخ المجتمع، عصر الانحطاط، وتكون قوى التسلط الداخلي والخارجي في أوج سطوتها وحالة الرضوخ في أشدّ درجاتها. تنهار فيها قيمة الإنسان المقهور وتطغو أنويّة المتسلّط. فيشعر المُستضعَف بالإثم والدونيّة. ولهذا استحقاقات نفسية (الإثم، العار) وسلوكيّة (العدوانيّة، التعرض للإصابات وللحوادث) وجسديّة (التعرض للأمراض المتنوعة، الميول المرضيّة ،سوء تغذية) وذهنية (الإعجاب والاستسلام للمتسلّط والتبعيّة الكليّة له) وعاطفية (خجل من المجتمع والتهرب منه وعدم الثقة بالنفس وفي المجتمع).
- مرحلة الاضطهاد: مرحلة وسطى بين حالة الرضوخ ومرحلة التمرد والانتفاض. تكون الحالة النفسية للإنسان قد بلغت درجة عالية من التوتر الانفعالي والوجودي العام. يخلي داخليا ويكون عدواني بشدة، فيبحث عن مخطئ يحمله وزر العدوانيّة المتراكمة داخليًا. يصُبّ عدوانيته على الآخرين ويحوّلهم إلى مصدر ورمز للعدوانيّة ويُبرر الاعتداء عليهم ويُشرّعه ويُلبِسُهُ طابع الدفاع عن النفس. أقلّ نزاع يأخذ أبعادًا مُضّخمة قد ينتهي بمأساة، كالاقتتال على فتح طريق، أو خلاف في وجهات النظر الخ… الآخرين الذين تصبّ عليهم العدوانيّة ليسوا هم الأعداء الحقيقيون، بل هم من تربطنا بهم صلات ايجابيّة.
- مرحلة التمرد والمجابهة: يقول فانون أنّ الشعب الذي ” ظلوا يقولون له أنّه لا يمكن أن يفهم غير لغة القسوة، يحزم أمره الآن، على أنّ يُعبر عن نفسه بلغة القسوة”. إنّ بزوغ فجر الحريّة يُشير إلى أنّ الشعب قد قررّ أنْ لا يثقّ إلّا بالتعبئة الجماهيريّة والتي تشملُ كلّ تشكيلات المجتمع ويحتوي كلّ طوائفها ومكوّناتها من أجلْ مُواجهة القهر والتسلّط والتخلف ليرتقيَ إلى ما هو أكثر حضارةً وأكثر كرامةً وحريّةً.
بقدر ما يُشّكل العنف تهديدًا وأذى للإنسانية، بقدر ما هو أساس تثبيت السلطة السياسيّة وبقدر ما يمكن أن ينقلب ضدها. يقول ادغار موران لا يمكن الحدّ من العنف إلّا من خلال تجذير الوعي الكوكبي. كما أنّ هنالك ضرورة سياسية لمنع العنف يمكن إسنادها إلى مبادئ الديموقراطية والعدالة والحريّة لبناء ا أفق مستمر لدولة القانون والحقّ والعدل.
وأُنهي بقول ستانلي هوفمان:” نأمل أن يتفهّم مسؤولونا، أنّه بعد أن نجحوا في جمع تحالف الحلفاء ضد الإرهاب، فإنّ مصلحتنا تقوم في أن يكون لنا شركاء في بحثنا عن الحرية، عن الحياة وعن السعادة، في عالم يتنامى في التوّحش. علينا أن نفهم الآن أنّنا لا يمكن أن نستفيد بكلّ طمأنينة من هذه القِيَم الموجودة عندنا، إذا كان الآخرون في الخارج، لا أمل لهم في أن يتقاسموا معنا هذه القِيَم “.
راوية شنطي
راوية هي عضوة الهيئة التدريسية في قسم التربية والمجتمع كلية اونو، فرع القدسحاصلة على لقب اول في علم الاجتماع من جامعة بار ايلان، على لقب ثاني في الدراسات الجندرية ولقب ثاني اضافي في علم الاجرام الكلينيكي. تركز مجال الاولاد في خطر في فرع القدس وصاحبة خبرة واسعة في مجال التدريس، توجيه المجموعات والعلاج.